" بين صفحات التاريخ : زيارة الاتحاد السوفيتي والقاعة التي خلدت مؤتمر يالطا "
مع تعدد زياراتي للاتحاد السوفياتي، على مدى خمسة عشر عاماً تقريباً، انطبعت في ذاكرتي بقوة زيارتي لموسكو في سبتمبر عام 1983 واللحظة التي اجتمعت فيها بالزعيم السوفياتي الجديد يوري أندروبوف في «الِقرِمْ » على ساحل البحر الأسود حيث كان يستجمّ.
الواقع أنه كان يعيش أيامه الأخيرة واحتضاره بعيداً عن الكرملين. أتاحت لي هذه الزيارة أن أشاهد القاعة التي جرى فيها التوقيع على اتفاقية يالطا في 4 فبراير 1945 م من قبل الرؤساء ستالين وروزفيلت وتشرشل حيث اتفقوا على تقسيم ألمانيا(1) إلى أربع مناطق وإرغام ألمانيا على تسليم الاتحاد السوفياتي معدات ومصانع ومصادرة ثروات أخرى لتعويض الخسائر السوفياتية(2)، ومحاكمة أعضاء الحزب النازي وتقديمهم كمجرمي حرب، وإنشاء منظمّة عالمية لصون السلم العالمي، وهي التي أصبحت فيما بعد الأمم المتحدة، وإعادة إرساء النظام في أوروبا ومساعدة الدول المنهزمة لتكوين حكومات ديمقراطية وإجراء انتخابات حرة في بولندا، وبسط نفوذ الاتحاد السوفياتي إلى حدود بولندا.
علمت من أحد المرافقين أن رئيس وزراء بريطانيا تشرشل طلب من الحضور في القاعة أن لا يقفوا عند دخول ستالين بسبب تأخره بعض الوقت وعندما دخل ستالين بهامته وهيبته ونياشينه كان تشرشل أول الواقفين دون أن يشعر وقام الآخرون كذلك تقديراً لدوره في انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية عام 1945 م، كما حدثني المرافق أن الفيلا التي نزلتُ فيها في يالطا كانت مقراً وسكناً للزعيم السوفياتي ستالين أثناء توقيع المعاهدة.
كذلك زرت قاعة الاجتماعات حيث جرى توقيع الاتفاقية في قصر لفاديا الذي نزل فيه الرئيس الأميركي روزفلت.
اوجد أندروبوف نفسه في وضع يوجب عليه أن يعيد بناء الاتحاد السوفياتي بعد سنوات الركود التي عاشها في آخر أيام حكم بريجنيف. قيل إن أندروبوف الذي كان من موقعه رئيساً لجهاز المخابرات (الكي جي بي) يرصد الأخطاء والسلبيات، كان لديه ملفات للأولويات التي سينطلق منها لإصلاح النظام السوفياتي، لكن عندما وصل إلى الحكم كان هو الآخر مريضاً، ولكنه أيضاً لم يكن أي زعيم سوفياتي آخر، لقد كان طرازاً من القادة المختلفين والمعاصرين. كان أندروبوف قبل أن يستقر في الكرملين، قد طاف العالم كله، بل إن منصبه رئيساً للمخابرات السوفياتية كان يضع العالم على طاولته كل صباح. قبل ذلك كان سفيراً في بودابست عام 1956 م وقت اجتاحتها القوات السوفياتية، لهذا كان يعرف ماذا يجري في العالم، وتحديداً في الغرب المتقدم، وبالتالي يعرف كل ما ينقص الاتحاد السوفياتي ويتمنى تحقيقه في بلاده.
عقدتُ مع يوري أندروبوف اجتماعاً مغلقاً استغرق أربع ساعات كاملة في الثامن والعشرين من سبتمبر 1983 م، تحدثتُ فيه بصراحة عن علاقات اليمن الديمقراطية بالاتحاد السوفياتي، وأبديت بعض الملاحظات على بعض الجوانب التي كنت أراها سلبية في السياسة السوفياتية في منطقة الشرق الأوسط، وبرغم شدة مرضه استمع إليّ أندروبوف، بل أصغى إليّ بكامل حضوره وجوارحه، وأخذ يستوضح بقلق عن بعض الأمور والأشياء التي وردت في عرضي السياسي الشامل.
من حديثي اقتنع أندروبوف بأن على الاتحاد السوفياتي أن يتحرك لمساعدة اليمن الديمقراطية والعرب أكثر من السابق. وأصدر تعليماته الفورية لتنفيذ كل ما اتفقنا عليه خلال هذا اللقاء بأسرع وقت ممكن. وفعلاً، لأول مرة في العلاقات اليمنية السوفياتية كان يُنفَّذ ما اتفقنا عليه في الوقت والسرعة المطلوبين.
أدرك أندروبوف بسرعة جوهر الوضع الناشئ في منطقة الشرق الأوسط، وسعى إلى مساعدة العرب في نضالهم من أجل استعادة أراضيهم المحتلة، وفي حصر الخطر الداهم من إسرائيل ونيتها الاستيلاء على مزيد من الأراضي العربية. وأعتقد أن سورية تلقت في عهده القصير جداً مساعدات عسكرية في غاية الأهمية بغية تحقيق التوازن العسكري الاستراتيجي مع العدو الإسرائيلي (وهو ما أكده لي الرئيس حافظ الأسد) .
أعرب يوري أندروبوف عن ارتياحه لحديثي الصريح، وقال إنه يشاطرني الكثير من آرائي وخصوصاً ما يتعلق بالسياسة السوفياتية في الشرق الأوسط. ما جعل العرب في الموقع الأضعف بعد اتفاق كامب ديفد مع مصر.
انتهى اللقاء، وحانت لحظة الوداع الأخيرة. منذ ذلك الوقت أدركت أنه الوداع الأخير فعلاً، إلا إذا حدثت معجزة! نهض يوري أندروبوف، من مقعده بقصد توديعي، لكنه قبل أن يقف تماماً انهار وسقط على مقعده.
وجدت نفسي في وضع حرج، فلم يكن بوسعي مغادرة الغرفة وترك الرجل على حالته تلك. وزاد الأمر سوءاً أن معاوني أندروبوف أنفسهم كانوا في حالة ذهول تامّ، فلم يعرفوا كيف يتعاملون مع الموقف، وأخذوا يحملقون في زعيمهم الملقى على الكرسي مثلي في ذهول وقلق دون أن يهرعوا لتقديم الإسعاف له أو استدعاء أطبائه من الغرفة المجاورة حيث كانوا يقبعون ولا شك!
من حسن حظ الرئيس أندروبوف أنه استعاد نشاطه بعد قليل وواجه الموقف بنفسه.
وعندما رآني لا أزال واقفاً ابتسم ابتسامة لا تكاد تلحظ، ونهض متحاملاً على نفسه ثم اندفع نحوي واحتضنني بقوة وحرارة مودعاً. وكنت زائره الرسمي الأخير قبل الموت.
في التاسع من فبراير عام 1984 م مات يوري أندروبوف. أعترف بأنني وأنا أسير في جنازته شعرت بفقد شخصية هامة لم تمضِ على العلاقة به فترة كافية. لكنه خلال هذا الزمن القليل نقل صداقة بلدينا إلى موقع جديد، بما في ذلك استخراج النفط في شبوة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- تقدر الخسائر البشرية في صفوف القوات المسلحة الالمانية بحسب دراسة أعدها المؤرخ العسكري الألماني روديغر أوفرمانس عام 2000 ما يقارب 5.3 ملايين فرد في صفوف القوات المسلحة الألمانية خلال فترة الحرب.
- تقدَّر خسائر الاتحاد السوفياتي البشرية في الحرب العالمية الثانية وفق أبحاث أُجريت في روسيا بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، إلا أن الإحصاء الأقرب للدقة لإجمالي الخسائر إبان الحرب يبلغ 26.6 مليون فرد في مجمل محيط الحدود السياسية للاتحاد السوفياتي مع نهاية الحرب.