الفن.. مرآة الشعوب وذاكرة الأوطان
ليست الأوطان بحجم أراضيها، بل بعمق فنونها، ودفء ذاكرتها، ونبض ثقافتها التي تسكن الوجدان جيلًا بعد جيل. فالفن هو نبض الشعوب الخفي، ومرآتها الصادقة، وهو الذي يُحيل التاريخ إلى نبض حيّ، والوجدان إلى لغة تتجاوز الحدود واللغات.
حين جلستُ في القاعة الرئيسية لدار الأوبرا المصرية مساء 12 يونيو 2025، وأنا أشارك في الاحتفال بالعيد الوطني لروسيا الاتحادية، لم يكن العرض الفني الذي قدّمته فرقة "كوستروما" مجرّد رقصة أو لوحة بصرية... بل كان نافذة على حضارة تتنفس جمالًا، ودرسًا في كيف تصوغ الشعوب هويتها عبر الفن.
هذا العرض أعاد إليّ ذكريات وطني اليمن، حيث كان الفن يحمل الروح ذاتها في التعبير عن الهوية والتاريخ.
في تلك اللحظة، لم أكن حاضرًا في القاهرة فقط، بل عادت بي الذاكرة إلى عدن، إلى زمنٍ كانت فيه جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية تعيش ربيعها الثقافي، وتؤمن أن الرقصة ليست مجرد حركات، بل تاريخ يُروى، وأن الأغنية ليست لحنًا فقط، بل هوية تُصان.
تذكرت النشاط الثقافي والفني الغني الذي شهدته بلادنا في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، حين جرى تأسيس معهد الفنون الجميلة برئاسة الموسيقار الكبير جميل غانم وخلفه الموسيقار الكبير أحمد بن غودل، الذي كان له دور بارز في تطوير المعهد تشكيل فرق الإنشاد والرقص والغناء الشعبي، إحياءً لتراثنا الراسخ.
امتدت هذه التجربة إلى مختلف المحافظات، وقد كان لكل محافظة فرقة رقص شعبي خاصة بها، تمثلها وتعكس موروثها الثقافي المحلي التقليدي. وكانت هذه الفرق تتنافس سنويًا في مهرجان الأعراس، حيث يبلغ التنافس ذروته في الغناء والرقص والأزياء والشعر، مقدّمةً لوحات بصرية غنية تنبض بالألوان والحركة والإيقاع، تُجسّد من خلالها روعة التنوع الذي يزخر به التراث اليمني في رقصاته وأزيائه وأهازيجه وأشعاره.
لقد كان ذلك المهرجان ساحةً حقيقية للإبداع الشعبي، تلتقي فيها الفنون من مختلف المحافظات، ويُحتفى بالتعدد الثقافي بوصفه مصدرًا للقوة والوحدة والانتماء. وقد شكّلت تلك المهرجانات الثقافية الداخلية السنوية نافذةً مشرعة أمام هذه الفرق التي تجاوزت 35 فرقة فنية ، لتعكس من خلالها وجه اليمن المشرق، وتُسهم في صون الهوية وتعزيز التواصل بين الأجيال في مشهد ثقافي مشرق لا يزال محفورًا في الذاكرة.
المهرجان الأول عام 1981
المهرجان الثاني عام 1982
المهرجان الثالث عام 1983
المهرجان الرابع عام 1984
المهرجان الخامس عام 1985
كما مثّلت هذه الفرق اليمن في محافل ومهرجانات دولية أُقيمت في صنعاء، تعز، الكويت، ليبيا، أبوظبي، إثيوبيا، بلغاريا، الاتحاد السوفيتي، كينيا، تنزانيا، زنجبار، وغيرها من الدول التي احتفت بالفنون اليمنية التقليدية، وكانت تلك المشاركات محل تقدير واهتمام.
كنا نحضر تلك العروض ونعتز بها، لا لما تحمله من أداء فني فقط، بل لما تمثّله من هوية وطنية وروح ثقافية موحّدة.
لكن اليوم، في ظل الحرب المجنونة، توقّفت الأنشطة الثقافية والفنية، ولم نعد نرى فرق الرقص الشعبي ولا حتى الفرق المسرحية، فالحرب ألغت كل مظاهر الثقافة والإبداع. ولهذا ندعو للسلام حتى تعود المياه إلى مجاريها، وتصدح فنوننا الشعبية كما كانت، معلنةً للعالم عن تراثنا وموروثنا الثقافي العريق.
دور الشباب في إحياء التراث الفني
إن الشباب هم الأمل في الحفاظ على التراث الفني وإعادة إحيائه. اليوم، يقع على عاتق الأجيال الجديدة مسؤولية إعادة تقديم الفنون التقليدية بأساليب معاصرة، سواء من خلال إنتاج مقاطع موسيقية أو رقصات شعبية تنتشر عبر منصات التواصل الاجتماعي مثل يوتيوب وتيك توك، أو من خلال تنظيم فعاليات ثقافية محلية تعيد الاعتبار للتراث اليمني.
باستخدام التكنولوجيا، يمكن للشباب أن ينقلوا الرقصات والأهازيج اليمنية إلى جمهور عالمي، مما يُسهم في صون الهوية الثقافية وتعزيز الفخر بها بين الأجيال الجديدة.
كنا – ولا نزال – نتمنى أن تهتم الدول العربية بالفن كما تهتم به روسيا وشعوب العالم، بوصفه أحد أعمدة "القوة الناعمة"، التي تُسهم في تعزيز الصورة الإيجابية للأمم وتحفظ تاريخها وهويتها في ذاكرة الإنسانية.
إن الفن ليس ترفًا ولا هامشًا في حياة الشعوب، بل هو مرآة حضارية تعكس وعيها ورقيّها، وتُعبّر عن قيمها وتطلعاتها.
فكلما ارتقى الفن في أمة، دلّ ذلك على رقيّ الإنسان فيها، وعلى وجود بيئة تؤمن بحرية الإبداع والتعبير.
لقد كان الفن – ولا يزال – أداة للتواصل بين الشعوب، وجسرًا للتقارب والتفاهم، ووسيلة لتوثيق اللحظات الفارقة في تاريخ المجتمعات، ورفيقًا دائمًا للتنمية والتغيير، في أوقات السلم كما في زمن التحديات.
لهذا، فإن الحفاظ على الفن وتاريخه، ودعم مؤسساته ورموزه، ليس مجرد وفاء للماضي، بل هو استثمار في الحاضر وبناء للمستقبل.
فمن لا يصون فنه، لا يصون هويته... ومن لا يحتفِ بثقافته، يتوه في ثقافات الآخرين.
فلنعمل معًا – أفرادًا ومؤسسات وحكومات – على إحياء الفن كركيزة لبناء المستقبل، ولنجعل من تراثنا الثقافي مشعلًا يضيء طريق الأجيال القادمة.
الفن الحقيقي يوحّد، يُلهم، ويبني... وبه ترتقي الأمم وتُخلّد في ذاكرة التاريخ.